أين سنة الرسول وماذا فعلوا بها ؟ - أحمد حسين يعقوب ص 72 :
الفصل الثاني : العناية الإلهية ، واهتمام الرسول بمن سيخلفه بعد موته
من سيخلف الرسول ، من سيبين القرآن ، ويبلغ سنة الرسول ، ويتولى مهام الرسول بعد موته ، فيمارس اختصاصاته وصلاحياته ، ويكمل المشوار من حيث انتهى الرسول ، من الذي سيؤتمن على أمور الدين والدنيا بعد قتل الرسول أو موته ؟
خاصة وأن مسألة قتل الرسول أو موته كانت واردة ومطروحة كإحدى خيارات الشرك ، فقبل الهجرة فكرت زعامة بطون قريش التي كانت تقود جبهة الشرك بقتل النبي ، ولولا خوفها من بني هاشم ومن فكرة الثأر لقتله ، لشرعت بقتله ، وليلة هجرة النبي من مكة إلى المدينة قررت زعامة بطون قريش قتل النبي ، وشرعت بقتله فعلا ، ولكن الله نجا نبيه بسبب لا يد لزعامة البطون به ، وحتى والرسول في طريقه إلى دار هجرته طاردته زعامة البطون ، وخصصت الجوائز لمن يقبض عليه حيا أو ميتا ، بل وأعظم من ذلك أنه حتى وبعد أن أسس النبي دولة الإيمان ، وأخضع العرب للشرعية الإلهية ، شرعت زعامة بطون قريش بقتل النبي أثناء عودته من غزوة تبوك ، والذين شرعوا بقتله خرجوا معه تحت مظلة الجهاد في سبيل الله ! ! قال تعالى ( أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ... )
- ص 73 -
الكارثة الحقيقية والدمار المحقق
فقتل الرسول أو موته دون تحديد من يخلفه كارثة حقيقية ، تعرض سلامة الدين والدنيا لأشد الأخطار ، وتهدد وجود الأمة نفسه ، وتهدم الدعوة والدولة وكل ما بناه النبي ، أو تورث ما بناه لألد أعدائه المتحدين ضده الذين يتربصون برسول الله ودين الإسلام الدوائر ، وتضع مستقبل كل ما يمت للإسلام بصلة في مهب الرياح العاصفة .
ثم إن المشرع الوضعي مع قصوره وضيق أفقه ، يترفع عن السقوط في هذا التصور ، فقد احتاط لهذه الناحية ، فما من دولة من دول العالم كله - قديمها وحديثها - إلا وقد نص دستورها على من يتولى الرئاسة العامة في حالة قتل الرئيس أو موته أو عزله ، وهذا أمر تسالمت البشرية قاطبة ، واتفقت كافة الأنظمة المتناقضة على صحته ووجاهته ومنطقيته ، وأثبتت الوقائع فائدته وضرورته .
العناية الإلهية بمن يخلف النبي
من الطبيعي أن ينال موضوع من يخلف الرسول بعد قتله أو موته الجزء الأعظم من العناية الإلهية ، والجزء الأكبر من اهتمام رسول الله خاصة وأن من يخلف الرسول هو حجر الأساس لنظام الحكم الإسلامي ، سواء من حيث الصلاحيات الهائلة التي يتمتع بها ، أو من حيث المهام الكبرى الملقاة على عاتقه ، أو من حيث مركزية ومحورية الدور الذي سيقوم به بوصفه القائم مقام نبي الله ورسوله .
والمنهج نفسه الذي سلكه القرآن الكريم في الصلاة وهي عماد الدين سلكه في نظام الحكم ، أو في خلافة النبي ، لقد تحدث القرآن الكريم عن ولاية الله ورسوله والمؤمنين ، وعن أولي الأمر ووجوب طاعتهم ، وعن الحكم بكتاب الله ، وإقامة الحدود ، والحكم بالعدل ، وعن الشورى ، وعن
- ص 74 -
البيعة ، وعن الأحزاب ، وعن حزب الله ، وحزب الشيطان ، وعن الأمة . . . الخ وكل هذه الأمور من لوازم نظام الحكم وضرورات وجوده ، ولكن القرآن الكريم لم يبين كل ذلك ولا فصله تفصيلا ، إنما ذكر هذه الأمور كأصول ومبادئ عامة ، تاركا للرسول الأعظم مهمة بيان وتفصيل تلك المبادئ والأصول على ضوء توجيهات الوحي الإلهي ، وكل في حينه ، تماما كما فعل بالصلاة وهي عماد الدين ، وبالزكاة ، والحج . . . الخ
فقد اكتفى القرآن الكريم بذكر الأصول والمبادئ ، وترك للرسول البيان والتفصيل ، فالقرآن الكريم كدستور ليس معنيا بالتفصيلات ، فأكثر التفصيلات قد أحالها القرآن الكريم على رسول الله بوصفه المختص والمؤهل لبيان ما أنزل الله ، ولكن الرسول لا يبين ولا يفصل إلا وفق التوجيهات الإلهية ، فهو يتبع تماما ما يوحى إليه من ربه .
فالذين يرفضون بيان الرسول وتفصيله المتعلق بنظام الحكم مثلا تماما كالذين يرفضون بيان الرسول وتفصيله المتعلق في أمور الصلاة والزكاة والحج . . الخ وهم منحرفون حسب الموازين الإلهية ، وقد اضطرهم هذا الانحراف والتمادي فيه إلى القول بعصمة الرسول في العبادات وفي ما يتلقاه من القرآن بالوحي ، وعدم عصمته في الأمور الأخرى ، وقد افتعلوا هذا التقسيم ليبرروا خروجهم على الشرعية الإلهية ، ورفضهم لبيان النبي في ما أنزل الله ، لذلك قالوا باحتمال صدور الخطأ من الرسول ومجانبته للصواب - والعياذ بالله - في ما هو خارج عن دائرة العبادات ! ! ! وهذا الزعم الفاسد يتعارض مع صريح القرآن ، ومع طبيعته ، وطبيعة الرسالة الإسلامية ، وقد تمخضت عنه عقول الذين بدلوا نعمة الله كفرا ، وانحصر همتهم بتبرير مفاسد التاريخ وفضائحه ولو على حساب هدم الدين نفسه فوق رؤوس معتنقيه .
وما يعنينا هو التأكيد أن القرآن الكريم قد أعار نظام الحكم وبالتحديد خلافة الرسول عناية فائقة ، من خلال الأصول والمبادئ العامة التي كرسها ومن خلال تكليفه لرسول الله ببيانها وتفصيلها وتطبيقها من خلال سنته المباركة
- ص 75 -
بفروعها الثلاثة ، ومن يمعن بالقرآن الكريم وينظر له بنظرة شمولية ، ويقف على السنة المباركة يوقن بما لا يدع مجالا للشك ، بأن الإسلام من خلال القرآن والسنة ، قد عالج أدق تفاصيل ظاهرة السلطة ، وبين للناس من سيخلف النبي في كل وقت من الأوقات ، وبين لهم كل ما يحتاجونه إلى يوم القيامة .
وكانت سيرة الرسول وسنته ببناء دولة الإيمان خطوة بعد خطوة بمثابة التصوير الفني البطئ لطبيعة الرئاسة العامة والمرجعية في الإسلام ، وخصوصيتها سواء على صعيد عصر النبوة الزاهر أو على صعيد الخلفاء الشرعيين الذين اختارهم الله لخلافة نبيه ، ولو أن رسول الله قد أطيع لما اختلف اثنان ، لأن الأمور كانت مرتبة إلهيا ترتيبا محكما .