أين سنة الرسول وماذا فعلوا بها ؟ - أحمد حسين يعقوب ص 26 :
الفصل الثاني : اهتمام الرسول الأعظم بسنته المطهرة وأمره بكتابتها وتدوينها
رأينا في المبحث السابق مكانة الرسول ومكانة سنته عند الله تعالى ، وموقعهما في الشريعة الإلهية وفي دين الإسلام ، وتكاملهما مع القرآن الكريم تكاملا يصل إلى درجة التلازم التام ، فمن غير الممكن عقلا وشرعا تصور كتاب إلهي ينزل إلى بني البشر بدون رسول ، أو تصور رسول يرسله الله من غير حجة أو كتاب .
وقد تبين لنا أن مهمة الرسول الأساسية منصبة بالدرجة الأولى والأخيرة على بيان ما أنزل الله ، لأن المقاصد الشرعية الواردة في القرآن الكريم لا تفهم فهما قائما على الجزم واليقين بغير بيان من رسول الله المختص والمؤهل إلهيا لذلك .
وقد اقتضت حكمة الله أن يكون للرسول دور بارز في البيان ، ففي القرآن الكريم أمور وفرائض وأحكام وأخبار ومصطلحات عامة ، فكلمة الصلاة مثلا وهي عماد الدين قد تكررت في القرآن مئات المرات ، ولكن القرآن لم يبين لنا بالتفصيل عدد الصلوات الخمس ، ولا مقدار كل صلاة ، ولا عدد ركعاتها ولا سجداتها ، ولا الكيفية التفصيلية لأدائها ، وكذلك
- ص 27 -
الزكاة ، والصوم ، والحج ، والجهاد ، ونظام الحكم ، . . . الخ .
هذه الأمور وأمثالها أحالها الله لرسوله ليتولى بيانها وتفصيلها على ضوء توجيهات الوحي الإلهي ، وقد بينها الرسول وفصلها بالفصل حسب التوجيهات الإلهية خلال عصر الرسالة الأغر .
فعندما يهتم الرسول بسنته المطهرة فإنه لا يهتم بأمر خاص به كثوبه مثلا بل يهتم بأوامر إلهية تلقاها بالوحي ، وأمر بتبليغها إلى المكلفين ليعملوا بها باعتبارها جزءا لا يتجزأ من دين الله ، وفصلا مهما من فصول الشريعة الإلهية ، ومقطعا من مقاطع الرسالة الإلهية التي أمره الله بإيصالها للناس .
لقد حرص الرسول كل الحرص على تعميم سنته ونشرها بكل وسائل النشر المعروفة ومتابعة تنفيذها ، والمحافظة عليها والالتزام بها ، فالرسول هو الذي كان يؤم المسلمين في صلاتهم ، ويأمرهم أن يصلوا كما كان يصلي ، وقد حج الرسول واعتمر وأمر المسلمين أن يحجوا ويعتمروا كما كان يحج ويعتمر ، وكان الرسول يرسل الجباة والعمال لجباية الزكاة والصدقات ثم يضعها حيث أمره الله أمام الجميع ، وكان الرسول يقودهم في جبهات القتال ، ويوزع الغنائم والأنفال وكان الرسول يمارس سلطاته كإمام وكقائد وكمرجع وكولي أمام الجميع ، وشاهدوه وهو يبني دولة الإيمان ، ويحدد مؤسساتها ، وركز الرسول تركيزا خاصا على نظام الحكم ، فعين خلفاءه الاثني عشر ، ليضمن انتقالا سلميا للسلطة ، واستقرارا لمؤسسة الرئاسة والمرجعية لأنها هي أساس النظام السياسي الإسلامي وأهل وأعد خليفته الأول ، وأنهى إليه علمي النبوة والكتاب ، وكلفه بأن ينهي علمي النبوة والكتاب إلى الخلفاء الشرعيين الأحد عشر الذين سماهم الرسول بأسمائهم ، وتسعة منهم لم يولدوا بعد ، لقد علم رسول الله المسلمين كيف يتعبدون ، وكيف يتعاملون مع بعضهم ، وحتى كيف يأكلون ، وكيف يشربون وكيف يضاجعون نساءهم ، بل وكيف يتبولون ، وكيف يتغوطون ، لقد أوجد
- ص 28 -
الرسول الكريم من خلال سنته نمط حياة جديدة تحكمها قواعد جديدة ، لقد هدم الرسول كافة القواعد والأنماط والبنى الجاهلية وأحل محلها قواعد وأنماطا وبنى إسلامية خالصة ، لقد تولى الرسول الكريم من خلال سنته الطاهرة عملية ترجمة التوجيهات الإلهية من النظر إلى التطبيق ومن الكلمة إلى الحركة ، لقد بين الرسول من خلال سنته كل شئ على الإطلاق .
فهل يعقل شرعا وعقلا أن يضع الرسول الأعظم هذا الكم الهائل من الأحكام والقواعد ، وأن يعمم كل هذه الأمور من تلقاء نفسه وبدون أمر من الله ! !
فالرسول هو قال لنا : إن صلاة الصبح ركعتان ، وإن صلاة الظهر أربع ركعات ، هذا التحديد لم يرد في القرآن الكريم ، لم يرد نصاب الزكاة ولا مقدار ما يؤخذ ، في القرآن الكريم ، ولا بين لنا كيف ينصب رئيس الدولة ، ولا كيف تستمر الرئاسة العامة والمرجعية والرسول من خلال سنته المباركة هو الذي فصل ذلك ، كيف نلائم بين هذه الحقائق الشرعية ، وبين قول الذين قالوا : ( حسبنا كتاب الله ) كيف تتلاءم هذه الحقائق الشرعية مع ثقافة التاريخ السياسي الإسلامي القائمة على التنكر الكامل لسنة الرسول ! ! وفك الارتباط الشرعي بين كتاب الله المنزل ونبيه المرسل ! ! وبوقت يطول أو يقصر ، ستزول الأصباغ ، وتتمزق البراقع ، ويكتشف السذج الغافلون المتبتلون في كهوف التاريخ ومغاراته ، أن الذين يعبدونهم عمليا من دون الله فعلوا أفاعيل ألد أعداء الله ورسوله ! !
الرسول الأعظم يأمر بتدوين سنته الطاهرة كان الرسول الأعظم موقن بأنه بشر ، وأنه ميت لا محالة ، وأنه خاتم النبيين ، وأن سنته بفروعها الثلاثة أحكام إلهية تلقاها من الله تعالى ، وأن الناس في كل زمان بحاجة ماسة إلى هذه الأحكام ، لأن القرآن والسنة هما الشريعة الإلهية التي ينبغي أن تسود وتحكم العالم البشري ، لذلك كله حرص الرسول حرصا تاما على تعميم سنته ونشرها بكل وسائل النشر
- ص 29 -
المعروفة كما حرص على تدوينها وتوثيقها ، وأعطى أوامره وتوجيهاته بالعمل على تدوين سنته الطاهرة ، وطلب من كل القادرين على الكتابة أن يكتبوا هذه السنة ، ومن كل القادرين على النشر أن ينشروها .
التدوين الخاص لسنة الرسول لأن الله تعالى قد اختار الإمام علي بن أبي طالب ليكون أول إمام وخليفة للرسول بعد موته ، ولأن الله تعالى قد اختار أحد عشر إماما من أولاد الإمام علي وأحفاده ليتولوا أمر الإمامة والمرجعية بالتوالي من بعد وفاة الإمام علي ، ولأن الإمام الشرعي هو القائم مقام النبي ، وهو مرجع الأمة الأعلم والأفهم ، فقد كلف رسول الله الإمام عليا ليكتب سنته الطاهرة ، فالله علم رسوله القرآن والسنة ، والرسول علم كل ذلك لعلي ( 1 ) .
وقد وضح الإمام علي هذا التكليف لأصحابه بقوله لسليم بن قيس الهلالي : ( كنت إذا سألت رسول الله أجابني ، وإن فنيت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت عليه آية في ليل ولا نهار ولا سماء ولا أرض ، ولا دنيا ولا آخرة ، ولا جنة ولا نار ، ولا سهل ولا جبل ، ولا ضياء ولا ظلمة ، إلا أقرأنيها وأملاها علي وكتبتها بيدي ، وعلمني تأويلها وتفسيرها ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها ، وكيف نزلت ، وأين نزلت وفيمن أنزلت إلى يوم القيامة ودعا الله أن يعطيني فهما وحفظا ، فما نسيت آية من كتاب الله ولا على من أنزلت إلا أملاها علي ( 2 ) .
وروى الإمام محمد بن علي الباقر عن آبائه : ( أن رسول الله قد قال لعلي : أكتب ما أملي عليك ، فقال علي : يا نبي الله أتخاف علي النسيان ؟
( 1 ) بصائر الدرجات ص 290 - 291 ، والمعالم ج 2 ص 301 نقلا عن الإمام جعفر الصادق .
( 2 ) بصائر الدرجات ص 168 ، وسليم بن قيس الهلالي العامري من أصحاب الإمام علي ، راجع قاموس الرجال ج 4 ص 445 . والمعالم ج 2 ص 304 . ( * )
- ص 30 -
فقال الرسول : لست أخاف عليك النسيان ، وقد دعوت الله أن يحفظك ولا ينسيك ، ولكن أكتب لشركائك ! قال علي : قلت ومن شركائي يا نبي الله ؟ قال الرسول : الأئمة من ولدك ، بهم تسقى أمتي الغيث ، وبهم يستجاب دعاؤهم ، وبهم يصرف الله عنهم البلاء ، وبهم تنزل الرحمة من السماء ، وأشار الرسول إلى الحسن ، وقال هذا أولهم وأومى إلى الحسين ، وقال : الأئمة من ولده ) ( 1 ) .
( وما ترك الإمام علي شيئا من سنة الرسول إلا وقد كتبه ) ( 2 ) حتى أرش الخدش أملاه رسول الله وكتبه علي بيده ) ( 3 ) .
( وأنجز الإمام علي مهمة تدوين السنة الطاهرة ، وجمعت السنة في صحيفة طولها سبعون ذراعا ) ( 4 ) بخط علي وإملاء الرسول ، قال الإمام أبو جعفر الباقر : ( إن عندي لصحيفة فيها تسعة عشر صحيفة قد حباها رسول الله ) ( 5 ) .
( وقد سمى الأئمة من أهل البيت كتاب الإمام علي الذي أملاه رسول الله والذي يشتمل على الأحكام ( بالجامعة ) وهو يشمل كل حلال وحرام وكل شئ يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش ) ( 6 ) .
ويبدو أن الإمام عليا قد كتب أيضا كتابين آخرين ، أحدهما :
( 1 ) الأمالي للشيخ الصدوق ج 2 ص 56 - مطبعة النعمان - النجف سنة 1384 ه ، والمعالم ج 2 ص 305 .
( 2 ) بصائر الدرجات ص 148 .
( 3 ) بصائر الدرجات ص 143 وص 145 وص 147 .
( 4 ) بصائر الدرجات ص 145 وص 159 .
( 5 ) بصائر الدرجات ص 144 .
( 6 ) بصائر الدرجات 151 - 152 ، وأصول الكافي ج 1 ص 239 ، والوافي ج 2 ص 135 ، ومعالم المدرستين ج 2 ص 310
- ص 31 -
1 - كتاب الجفر ، فيه أنباء الحوادث الكائنة .
2 - مصحف فاطمة فيه علم ما سيكون ، والمصحف هو اسم الكتاب ، وليس فيه آية واحدة من القرآن الكريم .
وقد أقر الأئمة الكرام بوجود هذه الكتب الثلاثة التي أملاها رسول الله وكتبها علي بخط يده .
وكان الأئمة الكرام يتوارثون هذه الكتب الثلاثة مع سلاح رسول الله وسيفه ودرعه ، وخاتمه ولوائه .