أين سنة الرسول وماذا فعلوا بها ؟ - أحمد حسين يعقوب ص 76 :
اهتمام رسول الله بأمر من سيخلفه
قلنا في الفقرة السابقة أن أمر من سيخلف الرسول بعد قتله أو موته ، قد نال الجزء الأكبر من العناية الإلهية ، لأن هذا الأمر جزء لا يتجزأ من دين الله ومن مستقبل هذا الدين .
وتبعا لذلك وعملا بالتوجيهات الإلهية فإن الرسول الأعظم قد أعطى موضوع من سيخلفه الجزء الأكبر من اهتمامه ، ويبدو أن اهتمام الرسول بأمر من سيخلفه كان سابقا لتشرفه بالنبوة والرسالة ، لقد ألقى الله محبة الإمام علي في قلب النبي فكان النبي يتردد على بيت عمه أبي طالب بصورة مستمرة ليطمئن على ابن عمه علي وليشرف على تربيته ، وفي سنة جدباء اقترح النبي على عمه العباس أن يساعدوا أبا طالب فيكفلون بعض بنيه ، فأخذ العباس ( جعفرا ) وأخذ النبي ( عليا لينفق عليه ويضمه إلى أسرته ، وكان عمر علي يوم ذاك ست سنوات ) ( 1 )
وعندما أخذ الرسول عليا ليكفله قال الرسول لمن حضر : ( قد أخذت من اختاره الله عليكم عليا ) ( 2 ) وهذا التصريح الذي قد صدر عن النبي يؤكد ، بأن ضم الرسول وكفالته لعلي ترتيب رباني ، فقد أراد الله أن ينشأ ولي عهد النبي وخليفته في كنف النبي ، ليتربى من سيخلف النبي تربية خاصة ، وليعد إعدادا كافيا لتولي الإمامة من بعد النبي وليثبت الله فؤاد علي بما يرى من
( 1 ) شرح النهج ج 1 ص 15 ، وكتابنا المواجهة ص 367 .
( 2 ) شرح النهج نقلا عن البلاذري والأصفهاني ، وكتابنا المواجهة ص 367 . ( * )
- ص 77 -
المعجزات ، وهكذا عاش الإمام علي مع النبي في بيت واحد طوال الفترة التي سبقت النبوة ، وخلال الفترة التي تلت النبوة وسبقت الهجرة وطوال الفترة التي تلت الهجرة وسبقت موت النبي ، وهذا شرف لم يدعيه أحد قط قال الإمام علي في ما بعد يصف طبيعة ارتباطه بالنبي : ( وضعني في حجره وأنا ولد ، يضمني إلى صدره ، ويكنفني فراشه ، ويمسني جسده ، ويشمني عرفه ، وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ، أو خطلة في فعل ، وكنت أتبعه اتباع الفصيل لأثر أمه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ، ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوة ( 1 ) .
سئل قثم بن العباس كيف ورث علي رسول الله دونكم ؟ فقال : ( كان أولنا لحوقا به ، وأكثرنا لصوقا به ) ( 2 ) .
وأخرج البيهقي في دلائل النبوة ، كما نقل الأربلي في كشف الغمة عن علي أنه قال : ( خرج الرسول في بعض نواحي مكة ، فما استقبله شجر ولا جبل إلا وقال له : ( السلام عليك يا رسول الله ) ( 3 ) .
قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام : ( كان علي عليه السلام يرى مع النبي الضوء ويسمع الصوت ) ( 4 )
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما لعلي عليه السلام : ( إنك تسمع ما أسمع ، وترى ما أرى إلا أنك لست نبيا ، ولكنك وزير وإنك لعلى خير ) ( 5 ) . وفي اليوم نفسه الذي أظهر فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعوته إلى الإسلام حدد الرسول بأمر من ربه من سيخلفه في حالة قتله أو موته ، فقال لعشيرته
( 1 ) كنز العمال ج 6 ص 408 ، وأخرجه النسائي في خصائصه ، وشرح النهج ج 3 ص 255 ، ومسند أحمد ج 1 ص 159 ، وكتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 223 . ( 2 ) نهج البلاغة ، خ 192
( 3 ) كتابنا المواجهة ص 368 .
( 4 ) شرح النهج ج 4 ص 315 .
( 5 ) راجع سيرة الرسول وأهل بيته مؤسسة البلاغ ج 1 ص 479 نقلا عن شرح النهج .
- ص 78 -
الأقربين في اجتماع ( الدار ) المشهور : ( إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ) ( 1 )
قال الراوي : ( فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ) ( 2 ) وقد سمعت بطون قريش كلها بهذا الاعلان ، وأخذوا يتندرون به في مجالسهم فيقولون : بأن محمدا قد أمر بإطاعة علي بن أبي طالب لأنه خليفته ووصيه وأخوه ، تماما كما كانوا يسخرون من النبي ومن القرآن الكريم نفسه وقد فرض هذا الحديث نفسه ، واجتاز كافة الحواجز والعوائق التي فرضتها الخلافة التاريخية على رواية وكتابة أحاديث رسول الله ، ويبدو أنهم قد أدركوا خطورة هذا النص على الواقع التاريخي فحذفوا كلمتي ( خليفتي ووصيي ) ووضعوا بدلا منهما ( كذا وكذا ) وكانت القلة المؤمنة التي التفت حول الرسول موقنة بأن الإمام علي بن أبي طالب هو الرجل الذي اختاره الله لخلافة رسوله ، وكان الرسول يؤكد هذا اليقين في كل مناسبة فقد رفض الرسول إسلام بني عامر بن صعصعة لأنهم اشترطوا عليه أن يدخلوا في الإسلام مقابل أن يكون لهم الأمر من بعده ، لأن الأمر من بعده قد حسم منذ البداية وعرف الجميع من هو صاحب الأمر من بعد محمد ، والأعظم أن رسول الله كان يأخذ البيعة لنفسه ولولي عهده ، قال عبادة بن الصامت : ( بايعنا رسول الله على السمع والطاعة والمنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله ) ( 3 )
والبيعة التي عناها عبادة هي بيعة العقبة ، وهذا يعني أن صاحب الأمر من بعد النبي كان معروفا قبل الهجرة ، وأن
( 1 ) راجع تاريخ الطبري ج 3 ص 217 ، وتفسير الطبري ج 19 ص 75 ، وتفسير الخازن ج 5 ص 127 ، ومعالم التفسير للبغوي ج 5 ص 127 ، وتفسير ابن كثير ج 3 ص 774 ، والكامل لابن الأثير ج 2 ص 62 ، وترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق لابن عساكر ج 1 ص 125 . . . راجع كتابنا ( الهاشميون في الشريعة والتاريخ ) ص 201 لتقف على بقية المراجع ، وهذا حديث صحيح وقد صححه ابن جرير الطبري وأبو جعفر الاسكافي وأرسلاه إرسال المسلمات .
( 2 ) المصدر السابق .
( 3 ) صحيح البخاري باب كيف يبايع الإمام الناس ح 11 ، وصحيح مسلم كتاب الإمارة ، وسنن النسائي كتاب البيعة ، وسنن ابن ماجة كتاب الجهاد . ( * )
- ص 79 -
مسألة من يخلف النبي ويقوم مقامه كانت محسومة تماما ، وعبادة بن الصامت هذا هو أحد النقباء الاثني عشر الذين شكلوا أعمدة المجتمع الإسلامي في المدينة ، وهم بمثابة ممثلي الأمة الجديدة .
وبعد الهجرة من مكة إلى المدينة ، واشتعال المعارك الحربية بين رسول الله ومن اتبعه ، وبين بطون قريش ومن اتبعها ، تألق نجم الإمام علي بن أبي طالب ، واكتمل عزه ، في بدر ، وأحد ، والخندق ، وخيبر ، وحنين ، وطبقت سمعته الآفاق ، وصار الرجل الثاني بعد النبي ، وتوج واقعيا كفارس أوحد للعالم واقتنع الصديق والعدو أنه ليس في العالم كله رجل واحد يستطيع أن يغلب الإمام عليا ، وأن كل شجاعة دون شجاعته ، وكل رجولة دون رجولته ، وكل مكانة دون مكانته ، وأن الرجل لا يقهر لأن الله قد خصه بقوة ربانية خارقة ، مثلما خصه بعلم النبوة ، وشرف القربى القريبة من النبي .
هذا السجل الحافل بالأمجاد هيأ المناخ الملائم أمام النبي ليقدم الإمام علي بن أبي طالب كخليفة له ، وكقائم بالأمر من بعده ، وكنائب عنه في شؤون الدنيا والدين ، وكولي لعهده ، لذلك أبرز رسول الله مؤهلات الإمام علي ، وملكاته ، وبين شرفه ، وعزه وعلو مكانته ، بكل طرق البيان المألوفة ، واتبع النبي ما أوحي إليه من ربه ، وعلى مرأى ومسمع من خاصة الأمة وعامتها تابع رسول الله الاعلان والبيان عن تميز ومؤهلات الرجل الرباني الذي اختاره الله وأعده وأهله ليكون أوحد زمانه في كل فضيلة ، ومستودع علم النبوة اليقيني ، والرجل المؤهل لخلافة النبي ) ( 1 )